من أعظم الأحداث خطرًا، وأبعدها أثرًا، التي وقعت في تلك الفترة وكان لها أثرها علينا وعلى المسلمين عامة: احتلال المسجد الحرام، أول مسجد وضع لعبادة الله في الأرض، وفيه الكعبة البيت الحرام، قبلة المسلمين في أنحاء الأرض، إليه يتجهون في صلواتهم كل يوم خمس مرات {وَحَيۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُ} [البقرة: 144].

وإليه يحج المسلمون في العمر مرة فريضة عليهم، ويحجون متطوعين ويعتمرون ما يسّر الله لهم. والصلاة في هذا المسجد بمائة ألف صلاة فيما عداه من المساجد، غير المسجد النبوي والأقصى.

يقول تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ 96 فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗا} [آل عمران: 96، 97].

حدث هائل

لهذا كان احتلال هذا الحرم المكي بما فيه من مقدسات، وما يحوط به من اعتبارات حدثا هائلًا، هزَّ العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وتساءل الناس هنا وهناك: ما الذي حدث؟ وماذا وراءه؟ ومن هم هؤلاء الذين احتلوا الحرم؟ ما أفكارهم؟ وما أهدافهم؟ وما وسائلهم؟ وماذا يقصدون من وراء  هذا الاحتلال؟ وهل هناك جهة داخلية أو خارجية تساندهم؟ أسئلة كنا نسألها، ويسألها معنا المسلمون والمهتمون في كل مكان، ليعرفوا حقيقة ما جرى، ويا لهول ما جرى!

ولقد وقع هذا الحدث الجلل، ونحن نستعد لاستقبال العلماء والدعاة والمفكرين الوافدين من أنحاء  العالم الإسلامي إلى الدوحة بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي للسيرة والسنة النبوية، الذي كان بداية الاحتفالات بمقدم القرن الخامس عشر الهجري.

ثمرة زرع

وأذكر أننا استقبلنا شيخنا الداعية الكبير الشيخ محمد الغزالي، وقد قدم من مكة المكرمة، - حيث كان أستاذًا بجامعة أم القرى - حزينًا أشد الحزن على ما حدث في المسجد الحرام، وكان يقول  بصراحته المشهودة: هذا ثمرة زرع ظل يُغَذَّى ويُنَمَّى لعدّة عقود من المشايخ الغائبين عن العالم، حتى ظهرت نتائجه اليوم!

أما هؤلاء، فقد عُرفوا بأنهم جماعة سلفية سعودية خالصة، من أقحاح السلفيين، وممن أخذوا سلفية ابن عبد الوهاب، كما هي وقد تصوروها بدوية لفظية ظاهرية واضحة، بلا تزويق، ولا تجميل، وربما أضافوا إليها من غلظتهم وخشونتهم، غير مراعين إطلاقًا، اختلاف عصرنا عن عصر الإمام ابن عبد الوهاب رحمه الله . إنها جماعة «جهيمان» العتيبي. وانظر اسم الزعيم. وهو رجل بدوي قح، حتى في اسمه، وإن كانت الأسماء لا حرج فيها، ولكن لها دلالتها وإيحاؤها.

في الليلة الأولى من غرة محرم سنة 1400هـ قررت هذه المجموعة السلفية بقيادة زعيمها «جهيمان» احتلال المسجد الحرام. وكانت رتّبت أمرها قبل ذلك، وأعدت العدة لهذا الأمر، وجنَّدت جنودها، وأدخلت كميات من الغذاء، وخصوصًا من التمر، لتخزنه في أماكن معينة من الحرم. وقد احتالوا على ذلك بوسيلة وأخرى. فقد يطول زمن الحصار، ولن يجدوا من يمدهم بالغذاء من الخارج.

وقد أعدوا بمجموعات بعدد أبواب المسجد الكبيرة والصغيرة، لتقوم بإغلاقها في الوقت المحدد. وفي هذا الوقت غلقت الأبواب على كل من في المسجد، فلا يستطيع أحد الخروج ولا الدخول. وكان كثير من الحجاج لا يزالون في مكة لم يعودوا إلى أوطانهم، ومن هؤلاء من كان في المسجد لصلاة أو طواف أو اعتكاف، فبقوا في المسجد مع المجموعة التي احتلته، وهؤلاء ناس لا لهم في الثور ولا في الطحين كما يقول المثل العامل المصري، أو كما يقول المثل العربي: لا هم في العير ولا في النفير. وبعض هؤلاء قد أفرجوا عنه فيما بعد. وبعضهم بقى إلى ما شاء الله.

الحرم المخطوف

لقد «اختطف» هؤلاء المسجد، حيث لا يظن أحد أن المسجد يمكن أن يختطف، إنما تختطف الطائرات  في الجو، بإجبار طياريها أن يُغيِّرُوا مسارهم، وأن يكونوا رهن إشارة الخاطفين ... أما أن يختطف مكان كبير كالحرم المكي، له مداخل وأبواب بالعشرات، ويسع عشرات الألوف، ومئات الألوف، فلم يعهد أن يخطف مثله!

ولكن المستبعد حدث، واختطف الحرم بالفعل، وأصبح كل من كان بداخله ساعة الإغلاق: تحت سلطان الخاطفين، ورهن إرادتهم.

إن المسجد الذي ظل مفتوحًا مئات السنين لكل من يريد الصلاة أو الطواف أو الاعتكاف، من كل آت من أنحاء الأرض: قد أغلق الآن فلا يملك أحد أن يدخله طائفًا أو عاكفًا، أو مصليًا.

هؤلاء الشبان المتحمسون الذين أصابهم ما سماه الكاتب الإسلامي محمد عبد الله السمان قديمًا: «الهوس الديني» اعتمدوا على أحاديث قرءوها في بعض الكتب، واعتقدوا صحتها، وبنوا عليها مواقف، وفرعوا عليها أحكامًا وفروعًا. وأسسوا عليها «إستراتيجيتهم» أو رؤيتهم الأصلية، وموقفهم الأساسي في المواجهة وتحقيق الأهداف.

1 - آمنوا بأن قضية المهدي وظهوره: قضية مسلمة، بل هي - كما أدخلها بعضهم - من ضمن لواحد العقيدة التي يجب أن يؤمن المسلم بمفرداتها!

2 - آمنوا بما جاء في بعض الأحاديث أنه من نسل النبي، وأن اسمه كاسمه واسم أبيه كاسم أبي النبي أي هو محمد بن عبد الله. وهو هاشمي حسيني. فبحثوا فيمن معهم ومن حولهم من الأتباع عن شخص تتوافر فيه هذه السمات: هاشمي حسيني اسمه محمد بن عبد الله. فوجدوا ذلك في أحد أتباعهم، واسمه محمد عبد الله القحطاني.

3 - صدقوا بما جاء في بعض الأحاديث أن ظهوره سيكون في غرة محرم في أول القرن فوجدوها فرصة ذهبية لا تعوض: أنهم على أبواب القرن الهجري، فليعدوا العدة لذلك وليقوموا بحركتهم.

4 - قرءوا فيما قرءوا: أنه سيبايع بين الركن والمقام. فقالوا: من غيرنا يستطيع أن يحقق هذه النبوءة،  ويبايع إمامه بين الركن والمقام، ونحن أهل المسجد الحرام، والبيت الحرام؟

5 - قرءوا فيما قرءوا: أن الجيش الذي سيهاجمهم سيخسف به، فباتوا مطمئنين، أنه لا خوف عليهم من هجوم من الأرض ولا من الجو، وأن كل من غزاهم أو هاجمهم سيردهم جند من السماء! والحقيقة أنه قد قضى عليهم تمامًا بجند من الأرض، أجبروا على أن يستبيحوا المسجد الحرام، ويضربوه بالقنابل، ويفتحوا أبوابه، ويأسروا من فيه، ويحاكموهم، ويحكموا بالإعدام على المهدي المزعوم، وعلى من نصبه! وهو جهيمان!

نظرة تقويم وتحليل

كانت جماعة جهيمان تعيش في الماضي والتراث، غير ملتفتة كثيرًا إلى الحاضر، ناهيك باستشراف المستقبل، ولا تعيش في الماضي كله، ولا في التراث كله، ولكنها تعيش في إطار مدرسة مُعَيَّنة، غير مَعْنِيَّة بما سواها من المدارس. إنها تعيش ظواهر النصوص، وليتها تعيش مع نصوص القرآن، وتتخذه إمامها ومصدرها الأول، بل هي تُعوّل - أكثر ما تُعوِّل - على نصوص السنة. ومع هذا لا تدقق في ثبوت السنة، وتعتمد الصحيح الذي لا شبهة في سنده ولا متنه. بل كثيرًا ما تعتمد الضعيف - أو على الأقل المختلف في تصحيحه وتضعيفه - في أحكامها ومواقفها، ولا سيما في الأمور الكبيرة، والقضايا الخطيرة.

وهي في مواقفها وأحكامها هذه تُعوِّل على الظاهر أكثر مما تعول على المقصد، وعلى الحرفية أكثر مما تُعوِّل على الفحوي، مُغفلة فقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، ناهيك بفقه السنن، وفقه الواقع، وفقه التغيير، وفقه الحضارة.

قضية المهدي المنتظر

إن الموضوع الذي حرّك هذه القضية كلها، ودفع إلى هذه الحركة الغريبة في مظهرها وفي جوهرها، هو: قضية «المهدي المنتظر»، وهي قضية أخذت مساحة كبيرة من تفكير المسلمين، ولا سيما المتأخرين، ومن مجادلاتهم، سواء في علم الحديث أم في علم الكلام: هل هناك مهدي ينتظر أو لا؟ وإذا كان فمن هو؟ ومتى يظهر؟ وما علامته؟ وما اسمه ونسبه؟ وما وظيفته؟ وهل الأمة في حاجة إلى مثله بعد أن أكمل الله الدين وأتم النعمة، وختم النبوة، وترك في الأمة ما إن تمسكت به لم تضل أبدًا؟

قضية المهدي كلها، لا أصل لها في القرآن، ولم يتحدث عنها بالعبارة ولا بالإشارة، بل الذي أكده القرآن ما جاء في قوله تعالى: {ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗا} [المائدة: 3]. وهي من أواخر ما ننزل من القرآن.

وقال تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٖ مِّن رِّجَالِكُمۡ وَلَٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّ‍ۧنَ} [الأحزاب: 40].

وقد أودع الله في هذا الدين - عقيدته وشريعته وقيمه - من عناصر الخلود والتجدُّد: ما يضمن بقاءه محفوظًا متجددًا، قادرًا على مواجهة كل تطور، وكل جديد.

وقد تكفَّل الله بحفظ مصادر هذا الدين، فقال في حفظ القرآن: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} [الحجر: 9]. وقال: {لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِ} [فصلت: 42].

وقرر الإمام الشاطبي: أن حفظ القرآن يستلزم حفظ السنة، لأنها مبينة للقرآن، وحفظ المبيِّن يستلزم حفظ بيانه.

كما تكفل الله بحفظ هذه الأمة - أمة الإسلام - ماديًّا: بحفظها من الاستئصال، ومعنويًا: بإبقاء طائفة منها تحافظ على وجودها الأدبي، وتحرس حدودها أن تستباح، وهم الذين يسميهم العلماء: «الطائفة المنصورة» التي صحت بها الأحاديث واستفاضت عن عدد من الصحابة: أنها لا تزال قائمة بالحق داعية إليه، حتى يأتي أمر الله، وهي ظاهرة على ذلك.

ويدخل في هذه الطائفة «المجددون» الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة ليجددوا لها دينها، كما روى ذلك أبو داود والحاكم وغيرهما، وصححه عدد من الأئمة.

وقد يكون هذا المجدد فردًا، وقد يكون جماعة أو مدرسة، المهم هو تجديد الدين من داخله، وبآلياته الذاتية، وهذا هو التجديد الحقيقي(1).

وإذا كان القرآن لم يذكر المهدي المنتظر لا بالعبارة ولا بالإشارة، فكذلك الصحيحان «صحيح البخاري» و «صحيح مسلم»: لم يذكرا المهدي هذا كذلك، إلا ما قيل في حديث: «يأتي في آخر الزمان خليفة يحثي المال حثيا، ولا يعده عدًا»(2).

وهذا ليس فيه ما يدل على دعوى المهدي، كل ما فيه: أن خليفة سيأتي يتحقق في زمنه الرخاء والغنى، بحيث يدفع المال إلى الناس بغير عدّ.

وربما يقول بعض الناس: إن صاحبي الصحيحين: «البخاري ومسلم» لم يقصدا أن يستوعبا كل الصحيح في كتابيهما، كما هو معلوم لعلماء هذا الشأن.

ولكن يجب أن يضاف هنا: أنهما حرصا على ألا يدعا بابا مهمًا من أبواب العلم إلا وذكرا فيه حديثًا، ولو واحدًا. فكيف بموضوع مثل هذا قامت على أساسه معتقدات، وحدثت مجادلات، كيف يكون عندهما حديث أو أكثر على شرطهما أو شرط أحدهما ولا يخرجانه أو واحد منهما؟!

ثم إن البحث في الأحاديث المروية في هذا الشأن - في ضوء موازين الجرح والتعديل، والتوثيق والتضعيف - يبين لنا أن هذه الأحاديث كلها لا تبلغ درجة الصحة التي يجب أن تتوافر ليحتج بها في قضية مهمة كهذه.

وقد تعرض العلامة ابن خلدون في مقدمته، لقضية المهدي، وما ورد فيها من أحاديث ضفعها كلها، ولم يجد دليلًا معتبرًا يستند إليه في الاعتقاد بظهور المهدي.

وقد رد العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله  على ابن خلدون في تخريجه لمسند أحمد وقال: إنه ليس من أهل هذا الشأن.

وأقول: إن شيخنا أحمد شاكر لم ينصف ابن خلدون، فإنه حين نقد أحاديث المهدي: نقدها على طريقة المحدِّثين، مستخدمًا موازين الجرح والتعديل التي وضعها الأئمة، ولم يعتمد على مجرد المنطق العقلي.

بين ابن محمود والألباني

وفي المؤتمر العالمي الثالث الذي انعقد في قطر للسُّنة والسيرة: ألقى العلامة الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، قاضي قضاة قطر، بحثًا قويًا، افتتح به جلسات المؤتمر، عنوانه: «لا مهدي ينتظر بعد محمد خير البشر»، ردَّ فيها كل ما استند إليه القائلون بوجوب ظهور المهدي. وكان له ضجة في المؤتمر. وقد ذكرنا ذلك من قبل. وكان الشيخ رحمه الله  ببحثه هذا، يرد على الذين احتلوا الحرم، بناء على هذه الفكرة عندهم.

وأذكر أن المحدّث المعروف الشيخ ناصر الدين الألباني، زار بعده دولة قطر، وطلب أن يلقى الشيخ ابن محمود، ليناقشه في قضية المهدي، كما طلب أن أحضر معه والشيخ الغزالي والشيخ الأنصاري رحمه الله تعالى، وكان الألباني مقتنعًا في قرارة نفسه، أنه قادر على أن يرد ابن محمود عن مقالته. وقد حضرنا وسمعنا ما قاله الألباني، وما رد به ابن محمود، وانصرفنا، وكلاهما يتمسك برأيه. ولم نر فيما ذكره الألباني أدلة قاطعة تجبر ابن محمود على التسليم، بل كلها يتطرق إليها الاحتمال. وقد قال علماؤنا: إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.

ومن المعلوم: أن عقيدة «المهدي» من العقائد الأساسية عند الشيعة الإمامية. ولكن المهدي عندهم موجود بالفعل، وهو الأمام الثاني عشر من أئمتهم المعصومين، ولكنه محجوز، لم يؤذن له بالظهور، ولهذا يدعون له أن يعجل الله فرجه.

كتاب «الفريضة الغائبة» وجماعات العنف

بداية نشأة جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية:

ذلك ما حدث في السعودية، أما في مصر فإن أفكار العنف قد تبنَّتها جماعات.

ففي هذه الفترة نشأت جماعة الجهاد، والجماعة الإسلامية، وكانت بداية النشأة في الصعيد، حيث تساعد البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية على تقبُّل فكرة العنف.

وكثيرًا ما نشب الخلاف، بل احتدم الصراع بين شباب الإخوان وشباب الجهاد، وكان مسرح الاعتراك الجامعات والمعاهد. فهم يتهمون الإخوان بأنهم خانوا مبدأهم الأول، وهو الجهاد، الذي كان أحد شعاراتهم الرئيسية: الجهاد سبيلنا، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا!

فهم الآن يهادنون الحكومات، ولا يرفعون راية الجهاد لمقاومة الحكام الظلمة، ولا لقتال الكفار من اليهود والنصارى والوثنيين في العالم.

والإخوان يحاولون أن يبينوا لهم فكرتهم عن الجهاد، وأننا لا نقاتل إلا من قاتلنا، ولا ينهانا الله عن الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا أن نبرهم ونقسط إليهم... وأن الله تعالى يقول: {فَإِنِ ٱعۡتَزَلُوكُمۡ فَلَمۡ يُقَٰتِلُوكُمۡ وَأَلۡقَوۡاْ إِلَيۡكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيلٗا} [النساء: 90]. وأن الخروج المسلح على الحكام له شروطه وحدوده، وإلا كان فتنة، وجلب على الأمة شرورًا كثيرة. وأن الإخوان قبلكم جربوا شيئًا من ذلك، فلم يحققوا هدفًا، ولم يغيروا منكرًا، ولا أسقطوا حكومة، وإنما أصابهم من المحن ما أصابهم، ويجب أن تستفيدوا من تجربة الإخوان قبلكم، ولا تبدءوا من الصفر، والسعيد من اتعظ بغيره.

ولكن شباب الجهاد وقادتهم قبلهم قد ركبوا رءوسهم، وزُين لهم هذا السلوك، فاستمرءوه، وساروا في طريقهم إلى نهايته المعروفة.

وفي هذه الفترة (سنة 1980م) ظهر كتاب «الفريضة الغائبة» لكاتبه محمد عبد السلام فرج، أحد رجال الجهاد، ويعنون بهذه الفريضة: الجهاد، وأن المسلمين عطلوا «الجهاد» من ناحيتين: من ناحية قتال الأعداء، وغزو بلاد الكفار كل سنة مرة على الأقل، وهو الذي يسميه الفقهاء: فرض كفاية، ومن ناحية قتال الحكام الكفرة، الذين عطلوا الشريعة وأحكامها، وحكموا بغير ما أنزل الله، وهو تعالى يقول: {وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} [المائدة: 44]. وبهذا حوّلوا دار الإسلام إلى دار حرب، حيث لم تعد أحكام الإسلام تعلو فيها، بل قوانين وضعها الكفار. وهذا الكتاب - أو الكتيب - مبني على فتوى ابن تيمية في مقاتلة التتار، وقتال كل فئة عطلت جهارًا فريضة متواترة ظاهرة من فرائض الإسلام، كالصلاة والزكاة.

وقد تصدى للرد على «الفريضة الغائبة» مفتي جمهورية مصر في ذلك الوقت الشيخ جاد الحق على جاد الحق رحمه الله (3).

كما ردَّ عليه صديقنا المفكر الإسلامي المعروف الدكتور محمد عمارة في أحد كتبه(4).

.........................

(1) انظر كتابنا: «من أجل صحوة راشدة، تجدد الدين وتنهض بالدنيا» فصل: «تجديد الدين في ضوء السنة».

(2) رواه مسلم في الفتن (1913) عن جابر بن عبد الله.

(3) انظر: «بيان للناس» (1/331) نشر دار الفاروق.

(4) انظر: الفريضة الغائبة، عرض وحوار وتقييم. وقد رددت على هذه الأفكار في كتابي «فقه الجهاد» الذي صدر قريبًا بفضل الله وعونه ونشرته مكتبة وهبة.