السؤال: نسأل في شأن الرجل يستفتي عالمًا مفتيًا ورعًا ذا ثقة وعلم، فيفتيه في الموضوع, فهل على المستفتي أن يستفتي عالما آخر ليستيقن من صحة الفتوى أم يكتفي بالمفتي الأول؟

وإذا اختلف أهل الفتوى المعتبرون شرعًا ورسميًّا في الموضوع الواحد، فبأي الآراء يأخذ المستفتي؟ هل يرجح الجانب الذي يتماشى مع مصلحته أم يأخذ بالأحوط؟ أقصد ماذا يفعل إذا اختلفت الفتاوى في الموضوع الواحد؟

جواب فضيلة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

الأخ السائل يسأل عن أمر مهم، وهو أمر واقع, ما له من دافع, أن الإنسان قد يستفتي عالما فيفتيه، ثم يسأل آخر فيفتيه بغير ما أفتاه الأول!

نقول: إذا كان العالم بهذه الصفات التي وصفها الأخ السائل- أي: عالم ورع تقي ثقة ذو علم- وأفتاه، واطمأنَّ قلبه إلى ما أفتاه به، فليس مطلوبًا منه أن يستفتي عالمًا آخر، لكن إذا لم يسترح قلبه إلى الفتوى, فعليه أن يسأل عالمًا آخر، أو إذا وجد آخرين يقولون هذه الفتوى خطأ، فيسأل عالمًا ثانيًا وثالثًا ورابعًا، ليزداد اطمئنانًا.

علم الفقه أشبه بعلم الطب:

وأقول للأخ السائل: اختلاف المفتين مشكلة لا مخلص منها، فهناك أمور يتفق عليها العلماء، وأمور يختلف فيها العلماء.

وأنا أشبِّه علمَ الفقه هنا بعلم الطب، فكما يعالج الطبيب المرض، يعالج المفتى ما في قلب المستفتي من حيرة أو شبهة أو جهل بالحكم.

الإنسان قد يصاب بمرض، ويعرض نفسه على الأطباء، فيتفقون أحيانًا، ويختلفون أحيانًا، ماذا يفعل المريض إذا اختلف الأطباء؟ لا بد أنه يرجِّح قول أحد هؤلاء.  

أحيانا يذهب المريض إلى طبيب مشهور ويعرض نفسه عليه، وما يقوله الطبيب هذا ينفذه وينتهي الأمر؛ لأنه أهل الاختصاص وأهل الثقة وأهل الشهرة، تسامع الناس عنه أنه لا نظير له، فلا يحتاج المريض إلى طبيب آخر، وأحيانا يظل في النفس شيء بعد كلام هذا الطبيب الثقة،  فيحتاج المريض أن يعرض نفسه على طبيب ثان وثالث.. وهكذا، حتى يصل إلى درجة الاطمئنان.

أحيانًا يأخذ بالأكثر عددا، واحد قال رأيًا، وأربعة قالوا رأيًا آخر. فيأخذ برأي الأربعة، ويقول: رأي الأربعة هو الأرجح عندي. وأحيانا يأخذ برأي الأوثق عنده؛ لأنه الأدق تخصصًا والأكثر خبرة بموضوع المرض، أما البقية فليسوا مثله في دقة التخصص. وأحيانا يقول: هذا الطبيب أشهر، هذا طبيب عالمي، الناس عرفوه في الشرق والغرب، ويذهب الناس إليه من هنا ومن هناك.

المهم أنه لا بد أنه يجد في نفسه مرجحا قويًّا من المرجحات يجعله يأخذ بهذا الرأي أو ذاك، ويحكم أن هذا الطبيب أفضل من غيره.

وما يقال في مجال الطب يقال في مجال الفقه، فعلى المستفتي أن يحسن اختيار من يستفتيه، وأن يصل إلى درجة الاقتناع والطمأنينة والثقة بقوله، فإذا لم يصل إلى هذه الدرجة يسأل غيره، حتى يصل إلى هذه الدرجة من الطمأنينة القلبية واليقين إلى صحة ما أفتي به.

روى الإمام أحمد، عن أبي ثعلبة الخُشَني، قال: قلتُ: يا رسول الله، أخبرني بما يحلُّ ويحرم. فصعَّد النبي صلى الله عليه وسلم، وصوَّب فيَّ النظر، ثم قال: "البر ما سكنت إليه النفس، واطمأنَّ إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون"(1).

فإذا اطمأن إلى قول عالم، وظهر بعد ذلك أنه خطأ، يكون قد استفرغ جهده في الوصول للحق، ولا شيء عليه.

اجتهاد العلماء واجتهاد العوام:

يقولون: اجتهاد العلماء في الأدلة، واجتهاد العوام في العلماء.

أي: إن العالم اجتهاده أنه يوازن بين الأدلة، ينظر دليلَ كل قول، ويرجِّح بين الأقوال وأدلتها، ويختار منها، هذا عمل العالم المجتهد.

أما العامي الذي لم يصل إلى درجة الاجتهاد ولا النظر في الأدلة، فماذا يفعل؟ يسأل العلماء، واجتهاده فيمن يسأل، فيجتهد ليسأل من هو أكثر علمًا، وأوسع أفقًا، وأكثر ورعًا، وليس عليه أكثر من هذا.

قال الإمام القرطبي في تفسيره: "فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها؛ لعدم أهليته، فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه: أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده، فيسأله عن نازلته، فيمتثل فيها فتواه، لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}  (النحل:43، الأنبياء:7)، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته، بالبحث عنه، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس"(2).

فإذا اجتهد فيمن يسأله، وأداه اجتهاده إلى عالم، واستفتاه، خرج من الإثم، فقد سأل أهل الذكر، كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:14)، {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء:83).  فقد أرجع الأمر إلى أهله، ورد الشأن إلى أصحابه، وعمل ما عليه، وإذا عمل ما عليه فقد برئ من الإثم، والذي يتحمل المسئولية هو من يفيته، وفي الحديث: "ومن أُفْتِيَ بفُتيا غير ثَبَتٍ، فإنما إثمُه على من أفتاه"(3).  

تسرع المفتي في الفتوى:

وعلى المفتي ألا يتسرع فيفتي بفتوى غير مدققة ولا محقَّقة، وإنما عليه إذا استُفتي أن يتحقق ويفتي بما يعلم، وإذا لم يعلم يقول: لا أدري. فلا أدري نصف العلم، ومن قال: لا أدرى فقد أجاب.

والنبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانًا يُسأل، فينتظر حتى يسأل جبريل، وكما في القرآن الكريم: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} (الأحزاب:63)، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85).

إذا كان هذا شأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم خلق الله، أنه أحيانا يُسأل فيقول: لا أدري. فما بالكم بمن دونه؟!

فالعالم الثقة يفتي فيما يحسن العلم به، وما لا يحسن العلم به يؤجله، أو يقول: الله أعلم. أو يقول: انتظروني حتى أكوِّن رأيًا في المسألة.

وهذا ما أفعله والحمد لله، أحيانا لا أُكوِّن رأيا في المسألة فأتركها، وقد أتركها شهورًا، وأحيانا أتركها سنين عددًا، وفي بعض المسائل لم أكوِّن فيها رأيًا إلى الآن، فالإنسان يقول ما يعلمه، وما لا يعلمه يقول فيه: الله أعلم.

والخطر كل الخطر أن يفتي بعض الناس بغير علم، فعن ابن عباس: أن رجلًا أصابه جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال"(4). اعتبرهم قتلة،  ودعا عليهم فقال: "قتلهم الله"؛ لأنهم دخلوا فيما لا يعنيهم، وأفتوا بما لا يعلمون؛ فتسببوا في قتل الرجل. بعض الفتاوى قاتلة، قد تقتل جماعة وليس فردًا فقط.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن يصير المتصدرون للفتوى ليسوا أهلا لها، ففي الحديث الصحيح المتفق عليه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهَّالًا، فسُئِلوا، فأفتوا بغير علم، فضَلُّوا وأضلُّوا"(5).

الرؤوس الجهال هؤلاء هم الذين يُهلكون الناس، يُسألون، فلا يقولون: لا نعلم، لا ندري. يتجرؤون على الفتوى، وقد ورد في الأثر: أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار(6). يفتون بغير علم فيَضلون ويُضلون؛ وهذا -والعياذ بالله- مؤذِن بخراب الدنيا، نسأل الله السلامة.

............

(1) رواه أحمد (17742)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح، والطبراني (22/219)، وجوَّد إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (2684).

(2) تفسير القرطبي (2/212).

(3) رواه أحمد (8266)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، وأبو داود في العلم (3657) وابن ماجه في المقدمة (53)، عن أبي هريرة.

(4) رواه أحمد (3056) وقال مخرجوه: حسن، وأبو داود (337)، وابن ماجه (572)، كلاهما في الطهارة.

(5) متفق عليه: رواه البخاري (100)، ومسلم (2673)، كلاهما في العلم، عن عبد الله بن عمرو.

(6) رواه الدارمي في المقدمة (157)، وقال صاحب «كشف الخفاء»: رواه ابن عدي عن عبد الله بن جعفر مرسلًا (1/50)، وذكره ابن بطة في رسالته في الخلع (ص 30) موقوفًا على عمر، وضعفه الألباني في «الضعيفة» (1814)، والأولى أنه ليس بحديث مرفوع؛ ولذا قلنا: في الأثر.