د. عبد السلام البسيوني

من أبرز التجارب الدعوية التي نفعني الله تبارك وتعالى بها - فيما أحسب - حـبي الزائد للاستيثاق والمعاينة، وعدم المجازفة في الأحكام؛ حتى أرى أو أسمع أو أقرأ - دون لبـس ولا احتمال - تصديقًا لما ورد في الآثار: (على مثلها فاشهد، وإلا فدع .. يعني الشمس)، حتى لا أقع في أحد، ولا أسيء إلى أحد، ولا أضع أحدا في غير منزلته.

تعلمت هذا مقتبل تجربتي الدعوية، قبل نحو ربع قرن؛ بعد أن رأيت من يفسق أو يكفر، أو يبدع، أو يجهّل بالظن أو السماع، وبعد أن رأيت شبانًا أحداثّا يسبون (س) من العلماء لأنه يلبس البنطلون، ويلعنون (ص) من الدعاة لأنه يشرب العرقسوس، ويفسّقون ( ل ) من المفكرين لأنه يقرأ الشعر ، ويستبيحون دم ( ع ) من المشايخ الكبار لأنه يلبس العمامة ، أو يقول بالـ.. بالوجه والكفين!!

وأيقنت بضرورة هذا لما سمعت أحد حدثاء الأسنان يسيء لمحدث العصر الألباني - عليه رحمات الله ورضوانه - وبين يديه مختصره على البخاري يقرؤه!! فسألته متعجبًا: تأخذ الحديث عن رجل تكفره؟ كيف تأمنه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عندك غير مسلم؟

فقال وكأنما فوجئ: معك حق .. سأنظر في ذلك!

ومن مثل هذا الموقف آليت على نفسي ألا أسمع لأحد رأيًا في أحد؛ بل كان عليّ أن أشهد مثل الشمس، تثـبتًا ، ويقينًا ، واستعفاءً ، ومعذرة إلى ربي تبارك وتعالى .

التشويش على القرضاوي

وفي أواخر السبعينيات شوش كثيرٌ من الشبان على القرضاوي ، ولم أكن قرأت له شيئًا ذا بال؛ بحكم دراستي خارج مصر ، وعدم ارتباطي بعمل إسلامي ، فبقيت على حذري - دون قبول له أو رفض - حتى شاء ربي الكريم أن أكون منه قريبًا ، وأعثرني الله تعالى على كتابه عن (الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف ) وعلى أصول مقالاته في مجلة الأمة – بخط يديه الدقيق المنمنم العجلان - أثناء عملي بها عامي  85 - 86 ، فبهرني منه ترتيب الفكرة ، وعمق النظرة ، وهدوء النبرة ، والحمية الظاهرة ، والغيرة الواضحة على الإسلام والشباب المسلم ، وعلى مصير الصحوة المظلومة من أبنائها ، ومن أعدائها .

واندهشت: إذن فما هذا الذي يشاع عن الرجل؟ وكيف يقال عن كاتب هذا الكلام النفيس ما يقال؟

وبعين الذي يريد أن يتأكد، ويرى، ولا يتورط، بدأت علاقتي منذئذٍ بالشيخ حفظه الله تعالى (لأشهد) من خلائقه وخصائصه الشيء الكثير المعجب ؛ أحسبه ، والله حسيـبه ، ولا أزكي على الله أحدًا . .

اقتربت لأرى ولأتيقن أنني لم (أشهد ) مثله ، ولم يؤثر فّي أحد - بعد العلاّمة الشنقيطي رحمه الله تعالى - ما أثّر هو ؛ بشموليته ، وموسوعيته ، وحضور ذهنه ، وقوة حافظته ، وإضافاته ، ومواقفه ..

• شهدته وهو يصدع بحقٍّ لا يقوى غيره أن يصدع به ، ولا يجرؤ غيره أن يفوه ببعض منه ؛ مع تربص المتربصين ، وإرصاد المرصدين ؛ يصدع به في جلاء لا يعرف الالتواء ، وجرأة لا تحتمل المداجاة .

• شهدته وهو محمر الوجه ، هادر الصوت ، مشتعل العاطفة ، منفعل النبرة ؛ غضبًا لدين الله تعالى ، والاجتراء على حرماته ، وتطاول سبئيي الزمان عليه ، دون أن يطأطئ ، أو يجامل ، أو يهادن ، وهو الذي قال المقولة التي أُثرت قبله أيضًا عن الشعراوي ، وصديقه يوسف ندا: كم بقي من العمر لنجامل ؟ احنا بنلعب في الوقت الضائع!

• شهدته وأنا أخالفه الرأي في أحد الرموز الجليلة التي يُكبرها ، وكان رأيي على غير ما يرى فضيلته - أيضًا بسبب مواقف شهدتها - فيراجعني في رفق ، فيما يقول لي : أنت حرٌّ في رأيك، ويصمت بدون لومٍ أو تثريب.

• شهدته وهو يسمع لمثلي بتركيز عالٍ ؛ لا يقاطع ، ولا يثور ، ولا إليك إليك ، ولا عندَك عندك ؛ فإذا انتهيت من كلامي رد برفقٍ وحلم وأبوة تملك القلب ، وتأسر نفس الرجل الكريم.

بل لقد احتد أمامي ذات مرة على شاب متحمس أغضبه، فهمست في أذنه أذكّره بكلمة قالها لي، فقام على الملأ - والمكان مكتظ بالشباب المتحمس في مجالس العلماء - ووالله ما تردد، بل قام ونادى أخانا، واعتنقه، واعتذر له بصوت عالٍ، ما جعل الشاب في اللقاء التالي ينـتخي ، فيقف، ويعتذر بشدة عن تسرعه ، وإساءته ، وسوء أدائه ، وكان ذلك درسا لافتا أفاد كثيرًا ، وغيّر من النفوس كثيرًا .

• شهدته وهو يمدح أهل الفضل - ولو كانوا مخالفين له - ويذكرهم بالخير والمحبة ؛ المودودي وابن باز والبنا وأنور الجندي والغزالي وابن عثيمين وأبا زهرة .. وصووووولاً إلى أحمد فؤاد نجم !

• شهدته موسوعيًا يتنقل بين الأدب والشعر ، والحديث والفقه ، والتربية والدعوة ، والاقتصاد والسياسة ، والمنطق والأصول ، والاعتقاد والفلسفة ؛ في زمن علوّ نجمِ كل من قرأ حديثين ، وحفظ جزأين ، ولحن في قل هو الله أحد !

• شهدته شاعرًا ومحاضرًا ، مواجهاً ومناظرًا ، جادًّا ومازحًا ، مادحاً ومنافحًا ؛ كل ذلك في بساطة لا تكلف فيها ، وسماحة نفس لا تحول بينك وبينه .

• شهدته – لكثرة أعبائه - مستغرقًا في أوراقه ، مندمجًا في قراءته ، أو في حديثه ، حتى ينتبه أننا معه ، فيطرح ما كان يشغله ويتحول إلى ذلك القرضاوي الودود اللطيف المجامل حسن المعشر !

• شهدته وقد أتاه فقير من البنغال ، يطلب معونةٍ ، فيخرج دفتر الشيكات ويعطيه عطاءً كبيرًا دون (......) .

• شهدته وهو ينبسط لضيوفه - على تفاوت أعمارهم وأقدارهم - ويمازحهم ويكرم وفادتهم ، ويجتهد في إدخال السرور عليهم.

• شهدته وهو يمزح و( ينكت ) ، ويروي من الأشعار العامية ، واللمحات الأدبية ، واللطائف الإخوانية ما يبهج ويُسعد .

• شهدته - تبارك الله – بذاكرته السيالة العجيبة ، التي تحفظ من القرآن الكريم ، وتضبط من نصوص الحديث الشريف ، وتسترجع الشواهد الجمة من كلام السلف وآراء العلماء ، ومن الشعر في كل عصوره ، حتى الشعبي والحر! تحفظ من ذلك ما تعيا به وتكلّ حوافظ الشبان، المولعين ببعض هذه الفنون !

• شهدته وهو يصلي متأنيًا يطيل الركوع والسجود ، ويبطئ القراءة والدعاء ، ويحقق الحروف والمخارج ، على خيانة بدنه له ، وأثر الزمن فيه .

• شهدته وهو يحكي عن طفولته الفقيرة ، وفي عينيه فرحة طفلٍ وبراءة قطرة ندى .

• شهدته والجمهور يتقاطر لسماع محاضراته حيث كتب الله تعالى له القبول ، والناس يبتدرون كلامه وخطبه ومواعظه ومحاضراته بالقلب قبل العقل ، وبالشوق قبل التربص .

• شهدته وهو يصلي في الجامع الكبير ساعتين ما بين قراءة طويلة ، ودرس ماتع ، وأدعية مأثورة جامعة تهز النفس وتخترق الفؤاد .

• شهدته وهو يبادرني بالمجاملة والكتاب الهدية والنصيحة ؛ على جلافتي ، وقلة تواصلي ، وانشغالي بسفاسف الأمور.

• شهدته وهو يحاول تلميع هذا ، ونصيحة ذاك  ، وذكر ذلك بخير ، والثناء على ذياك بظهر الغيب .

• شهدته فرحًا بفضل الله عليه ، شاكرًا لأنعمه عز وجل وآلائه ، لا يستعلي ، ولا ينتفخ ، ولا يقول : إنما أوتيته على علم عندي ! بل يتحدث عن أول جائزة نالها ، وأول جنيه ربحه ، وأول فشل استثماري له - أيام الكتّاب - في معزة أو بطة ، لست أذكر ، مع رنة من الفخر الخفي حين يتحدث عن فشله المزمن في الاستثمار ، وبركة الله تعالى له في العلم !

• شهدته وهو يسأل عن إخوانه ، ويسعى لهم ، ويحرص على إرضائهم ، ويذكرهم بالخير .

• شهدته في أحوالٍ كثيرة كثيرة ، لا أملك معها إلا أن أدعو الله تعالى أن يكثر من أمثاله ، وأن يبارك في عمره وعلمه ، وأن ينفعنا بحبه وحب الصالحين ، اللهم آمين .

عيوب القرضاوي

= أكبر عيوب القرضاوي أن عمره لا يسع همته ، وأنه يعامل بدنه ونفسه بكثيرٍ من القسوة والعنفوان .

= أكبر عيوب القرضاوي أن مشاريعه أوسع من المتاح له ، وتصوراته أبعد مدىً من السنين المتبقية ، التي يسابقها بالجلَد ومداومة العمل .

= أكبر عيوب القرضاوي أن كثيرين ممن لم يقرؤوه ، ولم يقتربوا منه ، لم يفهموه ، ولم يستوعبوا سعة واديه ، وكثرة خير الله عليه ، وقراءته للمستقبل البعيد ؛ حيث لا ينظر كثير من المتصدرين إلا تحت أقدامهم .

= أكبر عيوبه أن عينيه أتعبتاه ، وأن ركبتيه أزعجتاه ، وأن الصحة بدأت ترفع البطاقات الصفراء في وجهه ، وتقول له : ( حاسب ، خد بالك يا طويل العمر ) .

= أكبر عيوبه ( وما يزعلش فضيلته مني ) أنه لا يريد أن يفرد الشباب بنصيبٍ مباشر من همه، وهمته ، وفراغه ، وعطائه ، رغم الإلحاح عليه بذلك ، لعل أحدًا منهم يظفر منه بأثارة فضل ، أو امتداد منهج .

= أكبر عيوبه أن التزاماته أكثر من أوقاته ، ومشروعاته أعظم من حدود المتاح ، وأنه يحتاج مع عمره أعمارًا إضافية ، لكي يتمم ما يريد ، ويكتب ما يعرف ، ، ويواصل ما يتمنى ، وينفذ مشروعاته الخيرية والعلمية والدعوية والأكاديمية والجهادية !

القرضاوي درة العقد الثمين الذي انفرطت حباته مبتدئة بصلاح أبو إسماعيل .. دون أن تشتفي أنياب الموت ، ولا قَرَمُه للحوم العلماء شموس الأمة ، وحُداة دربها .

القرضاوي الحبيبب القريب ، الذي لم يسمح تفريطي وانشغالاته باقترابي منه أكثر وأكثر ، ولم تتح قلة لقاءاتي به - عبر العشرين سنة الماضية - أن ( أشبع ) مما عنده من الخير ، أو أطيل الكلام والمماكسة والاستفزاز ، كي أستخرج من كنوزه ما أغتني به ما بقي لنا من سنين ..

فاللهم متع به ، وأعنه ، وانفعنا بحبه وحب العلماء ..

يا عظيم الفضل ، يا ذا الجلال والإكرام .

................

*عن موقع الجزيرة مباشر، 10-9-2020، في إعادة للنشر، فقد سبق نشر المقال في سبتمبر من العام الماضي.