أ. خديجة بن قنة

رنَّ الهاتف مسجِّلا على شاشته الصغيرة اسم المدير العام لقناة الجزيرة وضاح خنفر. وكانت فاجعة رحيل الزميل ماهر عبد الله مقدِّم برنامج «الشريعة والحياة» في حادث سيارة في الحادي عشر من سبتمبر عام 2004م لا تزال جراحها لم تندمل بعد في قلوبنا. وسألني المدير العام إن كنت أرغبُ في تقديم برنامج «الشريعة والحياة»، ورددت فورًا: هل تراني جديرة بالجلوس أمام قامة عالمٍ بحجم ووزن العلامة الدكتور يوسف القرضاوي؟!

لم يكن معهودًا حينها إدارة النساء لبرامج دينية في الفضائيات العربية، وكان للشيخ يوسف هيبته ووقاره، ولم يكن في رصيدي من زاد المعرفة الدينية ما يشجعني على خوض التجربة.

دخلتُ الاستوديو في شهر سبتمبر من عام 2004م لتقديم البرنامج مرتبكة خَجْلَى، وكان واضحًا لعيْن الرقيب المتمرِّس أن بداياتي في البرنامج افتقدت عنصر الجرأة، التي تستدعي ما يُعرف عند الإعلاميين بـ «الاتصال البصري المباشر»، فقد كانت جُرأتي تصطدم بهيبة العالِم، كلما حاولتُ النظر إليه وجها لوجه.

مع الوقت بدأتُ أدخل في جلباب البرنامج الذي كان يحتل فيه فضيلة الشيخ القرضاوي دور البطولة المطلقة، بسعَة علمه، ورحابة أفُقه، وتبحُّره في مواضيعه. وكان الشيخ يوسف هو الركن الأصيل الثابت في البرنامج، بينما كان المذيعون المقدِّمون، ضيوفًا يتغيرون حسب مقتضيات العمل.

وكان فضيلة الشيخ القرضاوي يستقطب شرائح عريضة من الجمهور إلى برنامجه. وكان ذلك موثَّقا بنِسَب المشاهدة العالية التي كان يحظى بها «الشريعة والحياة»، في عمليات رصد اتجاهات الجمهور.

وكان الناس يتداولون حلقات البرنامج على أقراص مدمجة قبل أن يشهد الإعلام ثورة التكنولوجيا الحديثة، ويروج استعمال النواقل الإلكترونية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مثل: يوتيوب وتويتر وفيسبوك.

كان الشيخ حريصًا على مبدأ التنوع في اختيار المواضيع، وكان للإسلام السياسي والممارسة السياسية والديموقراطية نصيب من النقاش، رافقته دومًا دعوتُه الحركات الإسلامية للتقويم والمراجعة الذاتية.

لم يكن الدكتور يوسف القرضاوي محتكِرًا للنقاش في برنامجه، فقد اتَّسع صدره لاستيعاب مداخلات كثيرة من الضيوف، من المفكرين والعلماء الذين قدَّموا رؤى ووجهات نظر تتفق أحيانًا مع رؤيته، وتختلف أحيانًا أخرى معها.

ومثلما اتسع أفق الشيخ لاحتواء علماء ومفكرين اختلفوا معه في الرأي؛ اتسع أفقه أيضًا لاحتواء كل المواضيع المطروحة على الساحة بلا استثناء، إذ لا أذكر أنه اعترض يومًا على فكرة أو موضوع مهما كانت درجة حساسيته.

كانت حواراتي مع الشيخ القرضاوي في «الشريعة والحياة» تجربةً لا تُنسَى؛ أثرتْ بها حياتي، وأسعدتْ قلبي، وعمَّقت فهمي للشريعة وتجربتي في الحياة. كما أثرتْ وأسعدتْ ملايين من مشاهدي قناة الجزيرة في كل أرجاء العالم. ولو لم تتضمن حياتي الإعلامية سوى تلك الحوارات الممتعة المفيدة مع العلامة الشيخ القرضاوي لاعتبرتُها كافية.

.......

* أ. خديجة بن قنة مذيعة في قناة الجزيرة ومقدمة برنامج «الشريعة والحياة» سابقًا

- المصدر: «العلامة يوسف القرضاوي.. ريادة علمية وفكرية وعطاء دعوي وإصلاحي».