السؤال: نريد من فضيلتك أن تحدثنا عن أيسر طريق لحفظ القرآن الكريم وأفضله، خصوصًا بعد أن مضت مرحلة الطفولة التي كان يسهل فيها الحفظ.

جواب سماحة الشيخ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:

أشكر للسائل حرصه على حفظ كتاب الله، والعناية به، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(1). وفي رواية: "أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه"(2). وفي رواية عند الطبراني بإسناد جيد: "خيركم من قرأ القرآن وأقرأه"(3). وروى ابن ماجه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ الغِفاري: "يا أبا ذرّ، لأن تغدو فتَعلَّمَ آية من كتاب الله خير مِن أن تصلِّي مائة ركعة"(4).

ولا شك أن مرحلة الطفولة هي أولى المراحل للحفظ؛ لأنه كما قيل: الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر. وقالوا للحكيم الذي قال هذا: إن الكبير أوفر عقلًا! قال: ولكنه أكثر شغلًا. الكبير أوفر عقلًا، لكنه مشتت بين كثير من المشاغل؛ ولذلك ما يحفظه الإنسان صغيرًا قلما يضيعه كبيرًا؛ لأنه بمثابة النقش على الحجر، لا يضيع بسهولة.

وديدن المسلمين وعادتهم منذ عصور الصحابة والتابعين أن يحفظوا أولادهم من الصغر، وبعض العلماء التربويين في عصرنا ينهون عن الحفظ في الصغر، ومال إلى هذا الرأي الإمام الشهيد حسن البنا، ولكن رأيهم هذا معقول في غير القرآن، فنحن حفظنا القرآن واختزنَّاه صغارًا، فنفعنا كبارًا، ربما لم نكن نفهم القرآن ونحن صغار، ولكن القرآن من يسره وسهولته حتى الصغير يفهم مضمون الكلام ومعناه إجمالًا، إذا قرأ قصة موسى وفرعون يعرف أن فرعون رجل ظالم يعذب بني إسرائيل، ويقتل أبناءهم الذكور، وأن الله أغرقه في البحر هو وجنوده، أي: أن الطفل يفهم مجمل القصة.

تثبيت الحفظ بفهم الآيات:

ويحسن بالذي يُحَفِّظ القرآن للأطفال أن يعطيهم فكرة عن مضمون الآيات باختصار، مثلًا إذا كان يُحفِّظه سورة الفيل يحكي له قصة أبرهة الأشرم: أنه رجل جبّار جاء بالفيل وبجنوده يهدم الكعبة، فسلَّط الله عليه طيرًا يرمي عليه حجارة، فأهلكته ومن معه من الجنود، فيفهم ما يقرأ، هذا هو الأَوْلى. أو يقرأ تفسيرًا مختصرًا لما يحفظه يعينه على فهم معانيه وأحكامه، ثم يجمع بعد ذلك بين العلم والعمل.  

ومَن فاته الحفظ في مرحلة الطفولة، هل ييْئس من حفظ القرآن؟ لا، كثير من الناس حفظوا القرآن كبارًا، لكن عليه أن ينظم وقته، بحيث إن استطاع أن يحفظ كل يوم ربع حزب من القرآن، فيتم حفظ القرآن في مائتين وأربعين يومًا، أو يحفظ نصف ربع في اليوم، فيتم حفظ المصحف في أربعمائة وثمانين يومًا، أي: في سنة وثلث السنة تقريبًا.

تثبيت الحفظ بالمراجعة:

وعليه أن يتعاهد ما يحفظه بالمراجعة، لتثبيت ما حفظ. وعليه كذلك أن يحفظ على يد شيخ متقن، ليتقن القراءة وأحكام التجويد، فإن لم يستطع يستعن بتسجيلات كبار القراء، وهي- من فضل الله تعالى على الأمة- منتشرة ومتوفرة، كالمصحف المعلِّم للشيخ الحصري رحمه الله، الذي يقرأ فيه الشيخ الآية، ثم يعطيك فترة لتقرأها بعده، فتعيدها وتقرأها خلفه.. وهكذا، وأصبح الآن استخدام الكمبيوتر يسهل هذا الأمر، ثم يسمع ما حفظه لمن تيسر له ممن يتقن التلاوة، زميله في العمل، أو إمام المسجد، أو بعض من يصلي معه في المسجد.. وهكذا.

ومع ذلك وقبله وبعده أكرر، أن يهتم بالمراجعة، وأن يكون له ورد مراجعة مع ورد الحفظ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عُقُلها"(5).

ومن المعينات على تثبيت الحفظ، أن يصلي بما يحفظه، يعني ما يحفظه يقرؤه في صلاته، ولا يكتفى بقصار السور كما يفعل كثير من الناس.

وأنبه السائل الحريص على حفظ كتاب الله تعالى إلى أن يجمع بين الحفظ والفهم، فيتدبر كتاب الله، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29).

وأسأل الله أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا وأحزاننا، وأن يعلمنا منه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نسينا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، ويرزقنا تدبره والعمل به.

.....

(1) رواه البخاري في فضائل القرآن (5027)، وأحمد (500)، عن عثمان بن عفان.

(2) رواه البخاري في فضائل القرآن (5028).

(3) رواه الطبراني في الأوسط (3062)، وفي الكبير (10/161)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (11674): فيه شريك وعاصم وكلاهما ثقة وفيهما ضعف، عن ابن مسعود.

(4) رواه ابن ماجه في المقدمة (219)، وضعف إسناده البوصيري في الزوائد (78)، وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب (116).

(5) متفق عليه: رواه البخاري في فضائل القرآن (5033)، ومسلم في صلاة المسافرين (791)، عن أبي موسى.